آدم ميرا
تتربع مدينة تيبازة التي بناها الفينيقيون منذ آلاف السنين، من اجل
استخدامها كسوق تجارية، وكانت المدينة موجودة من العصر الحجري، لكن الفينيقيين
أكسبوها رونقاً خاصاً، حيث طمع فيها القاصي والداني.
ترحل بنا السيارة على الطريق الغربي من الجزائر العاصمة، حيث نصل إلى ولاية تيبازة التي تبعد عن الجزائر العاصمة نحو 64 كيلومترا، ورغم أن الهدف معروف، وهو التوجه إلى المدينة الأثرية التي تحاول السلطات حمايتها بشتى الطرق من سارقي الآثار، إلا أنها تعاني من إهمال، نتيجة عدم الاستمرار في البحث والتقصي في مدينة تعتبر تحفة فنية.
قبل الدخول إلى المدينة الأثرية، نشاهد أسواقا مؤقتة يبيع فيها الشباب بعضا من التحف الفنية المقلدة عن القطع الأثرية الحقيقية.
طلب منا في البداية قاطع التذاكر، أن نسلم ما لدينا من صحف، لأن الكثير من العائلات تدخل إلى المكان وتجلس على الجرائد، ثم تتركها وتغادر المكان، ما يؤدي إلى عدم نظافة التحفة الفنية التي صنفتها الأمم المتحدة كآثار دولية.
كانت “باساج” عبارة عن همزة وصل بين إكوزيزم الاسم القديم ل “الجزائر” وإيول الاسم القديم ل”شرشال” وكان الفينيقيون يرتاحون فيها، حيث كانوا يتزودون بالماء، قبل الانطلاق في رحلاتهم. ومع مرور الوقت أقاموا فيها نوعاً بسيط من الأسواق التجارية.
وفيما بعد بني طريق على الساحل من شرشال إلى الجزائر العاصمة. وكان هذا الطريق على مدى قرون أهم خط لموريتانيا، حيث كان غرب الجزائر يطلق عليه موريتانيا.
وجاءت فكرة تطوير الفينيقيين لأسواقهم، وإقامة أسواق ضخمة في تيبازة بعد أن أقاموا في إسبانيا وصقلية.
وتؤكد الحفريات الحديثة على وجود بعض الآثار الموجودة في قرطاج، ما بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. كما وجدت آثار تعود للفترة من الخامس إلى الثاني قبل الميلاد، تدل على أن تيبازة كانت مدينة بكل معنى الكلمة، وليست سوقا تجارية فقط.. وهذا يعني حسب الباحثين أن السيطرة فيها تعود إلى القرطاجيين. ثم تم إدماجها في مملكة صفاقص وماسينيسا، لكي تشكل فيما بعد مع إيول “شرشال” وبعض المدن الأخرى، نواة ممالك موريتانيا.
ولا
يمكن الحديث عن تاريخ المنطقة إلا بعد أن يتم الحديث عن ممالك موريتانيا.. التي
تمتد خلال القرنين الأولين قبل الميلاد، بعد انهزام يوغرطة (وهو من أحفاد
ماسينيسا) وقد تم تسليمه للرومان من طرف والد زوجته، بوكوس الأول والذي كان ملكا
على شمال المغرب “المملكة المغربية حالياً”. ومقابل تسليمه حصل بوكوس الأول على
منطقة الغرب الجزائري الحالي، والجزائر العاصمة.
وخلال القرن الأول قبل الميلاد جعل الملك بوكوس الثاني من إيول “شرشال”، عاصمة له، وقد كانت مملكته كبيرة حيث تمتد من المحيط الأطلسي إلى منطقة سطيف.
وفي نهاية ذلك القرن، أصبح يوبا الثاني ذو الجذور البربرية والمربى في روما والمتزوج ابنة أنطوان وكليوباترا (المصرية)، المعروفة باسم كليوباترا سيليني، يحكم إمبراطورية تجمع المغرب والجزائر، وخلال حكمه طور مدينة إيول “شرشال” والتي سماها “سيزاريه”.. وهو الذي بنا قبر الملكة الموريتانية، التي هي كليوباترا سيليني.
وفي الفترة بين 145 و150 ميلادية أصبحت مدينة تيبازة تحمل اسم “كولونيا عالية تيبازة سيس” وحصلت على التبعية الرومانية، حيث أصبح سكانها يتمتعون بالمواطنة الرومانية وهذا ما جعلها تتطور بشكل كبير.
في القرن الثالث من الميلاد، ظهر فيها الدين المسيحي. وتحتوي “تيبازة” على أقدم شيء مكتوب عن المسيحية في إفريقيا. وتوسعت المدينة بشكل كبير، حيث وصل عدد سكانها في نهاية القرن الرابع الميلادي، إلى 20 ألف شخص.
وفي بداية القرن الخامس، قام “الوندال” باجتياز ممر جبل طارق، وبدأوا يمتدون من الغرب نحو الشرق، وسقطت تيبازة قبل قليل من سنة 430 ميلادية.
وفي نهاية القرن الخامس أصبحت تحت حكم الملك الوندالي “أونوريك” والذي كان من مذهب “آري” وقام بملاحقة المسيحيين، فهرب جزء كبير من سكان تيبازة نحو إسبانيا عن طريق البحر، ومن بقي منهم قطعت أياديهم اليمنى وألسنتهم(...). وفي سنة 534 جاء البيزنطيون واحتلوا شرشال وأيضا تيبازة، وقد كانت الكاثوليكية عادت بشكل رسمي تحت عهد هيلديريك، بعد عام ،523 عندها عاد من هاجر من أبناء تيبازة من إسبانيا.
بعد القرن السادس الميلادي، استمرت الحياة بشكل غير مستقر، حسب الكتابات التي وجدت على جدران بيت في تيبازة، المعروف باسم “فيلاليفرسك” أي بيت “لوحة الجدران”.
فيما بعد أصبح مصير تيبازة مثل كثير من المدن، التي يهجرها أصحابها، حيث أصبحت ممرا للوديان، واختفت المدينة تحت عوامل الطبيعة.
بعد دخولنا إلى المدينة التاريخية، صادفنا النحات “جلولي السايح” الذي حوّل إحدى شجرات المدينة الأثرية إلى تحفة فنية رائعة.
وشاهدنا عدداً من الزوار يطلبون التصوير معه، فيبدي موافقته بسرعة، ويستمر بممارسة عمله، وأمامه صحن صغير يضع فيه الزوار بعضا من القطع النقدية.
ودّعت النحات، وبدأت أسير في طريق يؤدي باتجاه البحر، حيث ترتص على جانبيه أعمدة من الأحجار. في نهاية الطريق هناك مجموعة من الطرق الفرعية التي تؤدي إلى أماكن مختلفة كالمحكمة والحمام، وهناك اتجاه آخر يأخذنا باتجاه المسرح وأماكن العبادات الخاصة بالعهود المتتالية لأصحاب المدينة.
طقوس خاصة: في الطريق كان جمع من الزوار يحيطون بأحد المشرفين على المدينة الأثرية، يتحدث عن تاريخها قائلاً “إن هذه المدينة بناها وطورها الفينيقيون، وهم الذين أحضروا معهم الزيتون وزرعوه هنا، وإن أهل هذه المدينة كان لهم طقوس خاصة بالموت، حيث هناك مقابر خاصة للأغنياء، وأخرى خاصة برجال الدين، أما الأيتام فلا يدفنون، بل إن جثثهم يتم رميها للأسود الموجودة في مكان خاص في القلعة الحصينة”.
وأضاف المشرف: كان يحيط بالمدينة سور عظيم، طوله كيلومترات عدة، ويحيط بهذه المدينة، 37 مركز حراسة، حيث يتم حراستها على مدار الساعة، خوفا من أي غزو.
ولكن الطبيعة كانت قاسية حيث دمرت هذا السور العظيم، وأكلت المدينة، وغرق تحت البحر جزء منها، ولم يتم البحث تحت المياه، لأن هذه العملية تحتاج للكثير من البعثات العلمية.
وأشار الراوي الى تابوتين ملتصقين، وقال إن الأغنياء كانوا يشترون قبورهم، ويكون قبرا الزوج والزوجة ملتصقين، من اجل ان تشاركه في رحلة الموت أيضاً، وهناك قبور عادية تحيط بالقبر الكبير، وهي للخدم.
ومن أغرب طقوس أهل المدينة، أن الميت يأخذ معه زجاجة صغيرة، وآنية فخارية، تحتوي إحداهما على الدموع، والأخرى على عطر. فالأولى تشهد على الأيام والثانية من أجل استعمالها في رحلة البعث.
وأشار الراوي في يده، إلى لوحات من الفسيفساء الأرضية، حيث أكد أن التذوق الفني كان في أعلى مستوى. ثم شرح عن القنوات الصغيرة التي تحيط بالأبنية المختلفة، وهي عبارة عن قنوات للمياه. أما الحمامات فترتبط بالمستوى الاجتماعي، منها حمامات للأغنياء واخرى لخدام المعابد.. حتى هؤلاء الأخيرين لديهم مقابرهم الخاصة، حيث يوجدون في مقبرة موحدة، غير مسقوفة، بينما مقابر الأغنياء مسقوفة.
وإضافة إلى هذه الأبنية، هناك الإسطبلات الخاصة بالخيل، إضافة إلى جرار ضخمة جدا من الفخار خاصة بتخزين القمح لفترات طويلة، وهناك طرق للتنزه، بعضها مزروعة بالاشجار الكثيفة، وأخرى مزروعة بالورد.
نعود أدراجنا، لنجد أن الكثير من أبناء المنطقة قرر أن يسبح في شاطئ المدينة التاريخية، فغادرنا المكان وعدنا إلى واقع آخر. فلقد كانت الرحلة في عمق الزمن.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.